التخطي إلى المحتوى

بعد نجاح المبادرة الوطنية لسماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان في جمع نواب أهل السنّة في لبنان، أطلق «حزب الله» حملة إعلامية وسياسية تستهدف دار الفتوى وموقعها في المعادلة والتوازنات الداخلية ومكانتها العربية والإسلامية وفي المجتمع الدولي، فباشرت أبواقه وكتّابه ونوابه تنفيذ أمر العمليات الصادر من الضاحية الجنوبية للتشويش على المسار الاستنهاضي الذي أطلقه سماحة المفتي الأكبر على المستويين الوطني والعربي.

محاولات زرع الفتنة الداخلية

حاول «حزب الله» زرع الفتنة داخل البيت السنّي من خلال إعلامه، عندما يزعم هذا الإعلام أنّ اجتماع دار الفتوى كان بمثابة مأتم على سعد الحريري، محاولاً بذلك اغتيال سماحة المفتي دريان سياسياً، مما يدفعنا إلى التساؤل عن سبب كلّ هذا الهيجان السياسي والإعلامي لدى «حزب الله» ضدّ سماحة المفتي، وبماذا أزعج الحزبَ موقفُه الداعي إلى الحفاظ على المواقيت الدستورية للاستحقاق الرئاسي، وبانتظام عمل المؤسسات؟

ضرب مشروع الفوضى

الحقيقة أنّ المفتي دريان ضرب مشروع الفوضى الذي يقوده «حزب الله» لتمكينه من الاستفراد بالحكم، وأعاد منطق عمل المؤسسات الدستورية.

حقّق المفتي دريان جملة أهداف في خطوة واحدة، فهو نجح في جمع أهل السنّة أولاً، وتحت عنوان الحفاظ على دستور الطائف، وهذا يعني أنّ كلّ جهود «حزب الله» في ضرب انتماء أهل السنّة العربي، منذ قتل رفيق الحريري وما تلاه من اعتداءات متتالية، وصولاً إلى خروج سعد الحريري، قد سقطت.

مظلّة الأمان السعودية

البُعد الآخر في مبادرة سماحة مفتي الجمهورية هي تكاملها مع البُعد العربي السعودي وتحت هذه المظلّة الوارفة، التي أعادت الروح إلى أهل السنّة وإلى كلّ من يريد بناء الدولة في لبنان.

لطالما أراد «حزب الله» إيقاع الشرخ بين سنّة لبنان والمملكة العربية السعودية، وهذا ما ظهر بشكل خاص من خلال استغلاله لسلوك الرئيس سعد الحريري في مرحلة الصفقة الرئاسية التي أوصلت ميشال عون إلى قصر بعبدا، ومن ثم استقالته، وزعمه بعد ذلك أنّه طُلب منه إشعال الفتنة بين السّنة والشيعة، لكنّ تلك المرحلة انقضت ولم تترك أثراً يُذكر، بل إنّ مواقف التأييد للتعاون بين دار الفتوى والسفير وليد البخاري بلغت ذروتها، مع إعلان النخب الاقتصادية والسياسية والإعلامية والاجتماعية تأييدها لهذا التعاون، رغم إشارة الكثيرين إلى ضرورة توسعه ليشمل تغطية الموضوع الحياتي الصعب في المناطق السنية، وهذا هو الدور التاريخي للمملكة.

إعادة الاعتبار للدستور والطائف والمؤسسات

البُعد الأهم في مبادرة سماحة المفتي دريان هو العمل والضغط لإعادة إحياء المؤسّسات ضمن نطاق دستور الطائف الذي يريد «حزب الله» والتيار الوطني الحر تقويضه وإخراجه من المعادلة، من خلال تهشيم الدولة والمؤسّسات وإشاعة الفوضى الدستورية والمؤسساتية والاجتماعية والأمنية، ليتمكّنا من فرض مؤتمرهما التأسيسي الذي لا يمكن أن يتحقّق في حال انتظام عمل مؤسسات الدولة.

إسقاط محاولات الالتفاف على الدستور: لا طاولات حوار ملغومة

قطع اجتماع دار الفتوى الطريق على الهرطقات الدستورية التي رماها «حزب الله» في البازار الإعلامي والسياسي، على شكل دعوات إلى طاولات حوار خارج المؤسسات، كانت نتائج تجاربها السابقة كارثية على مكانة المؤسسات الدستورية، كما حصل في اتفاق الدوحة وفي تفاهم مار مخايل، فضلاً عن أنّ طاولات الحوار برئاسة الرئيس نبيه بري وبعدها في القصر الجمهوري، كانت تركّز على ترسيخ بدعة دستورية تقضي باتفاق القوى السياسية وتفاهمها، تحت الضغط وإرهاب السلاح، على إجراءات غير دستورية، مثل الثلث المعطل والوزير الملك، وغيرها.

أعاد اجتماع دار الفتوى التوازن والحضور العربي، ووضع اللاعب الفرنسي في موضع التفاوض عن إيران.

إعادة التلاحم السنّي – الماروني

نجح اجتماع دار الفتوى في إعادة اللُّحمة السنية – المسيحية من خلال موقف مفتي الجمهورية عندما تحدّث عن موقع الرئيس المسيحي في المعادلة الوطنية بكلام واضح شديد الصراحة لا يحتمل أيّ التباس، وهذا الموقف أكبر من المقاربات السياسية ويسمو ليواكب روح الدستور وجوهر الشراكة الإسلامية – المسيحية.

قال سماحة المفتي الأكبر: «لا يَخفَى عليكُمْ أنّ البَقَاءَ لِلأَوطَانِ وَالدُّوَل، مَنُوطٌ بِفَعَالِيَّةِ مُؤَسَّسَاتِها الدُّستُورِيَّة، وَعَلى رَأْسِهَا رِئاسةُ الدَّولة. فالرَّئيسُ هو رَمزُ البِلاد، وَحَامِي دُستُورِها الذي عليه يُقْسِم؛ وأُشِيرُ هُنَا إلى الأَهَمِّيَّةِ الفَائقَةِ لِمَنْصِبِ رِئاسَةِ الجُمهُورِيَّةِ في لُبنانَ بِالذَّات، فَالرَّئيسُ المَسِيحِيّ، رَمزٌ وَوَاقِعٌ لِلعَيشِ المُشتَرَك، الذي يَقُومُ عليه النِّظَامُ الذي اصْطَلَحَ عَليهِ اللبنانيون. وَيَنظُرُ إليهِ العَرَبُ بِاعترافٍ وَتَقدِيرٍ لِلتَّجْرِبَةِ اللبنانية، لأنَّهُ الرَّئيسُ المَسِيحِيُّ الوَحِيد، في العَالَمِ العَرَبِيّ. إنّ رَئيِسِ الجُمهُورِيَّةِ في النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ اللبنانِيّ، هو رَأْسُ المُؤَسَّسَاتِ الدُّسْتُورِيَّةِ القَائمَة. ولا يَنْتَظِمُ عَمَلُهَا وَلا يَتَوَازَنُ إلاّ بِحُضُورِه، مِنْ خِلالِ انْتِخَابِ مَجلِسِ النُّوَّابِ له. ولِضَرُورَاتِ انْتِخَابِ رَئيسٍ جَديد، ينبغي الحِفاظُ في الفُرصَةِ الأَخِيرَةِ على وُجُودِ النِّظَامِ اللبنانِيّ، وَسُمعَةِ لُبنانَ لَدَى العَرَبِ وَالدَّولِيِّين. فقد تكاثَرَتِ الأَزَمَات، وَتَكَاثَرَتْ الاستثناءَات، وَتَكَاثَرَتْ حَالاتُ الغِيَابِ أَوِ الضَّعف، أو الانْسِدَادِ في سَائرِ المُؤَسَّسَاتِ وَالمَرَافِق، بِحَيثُ دَخَلْنَا في وَضْعِ الدَّولةِ الفَاشِلة، وَنَحنُ سَائرونَ بِسُرعَةٍ بِاتِّجَاهِ اللادَولَة؛ وَيُوشِكُ العَرَبُ وَالعَالَم، أَنْ يَتَجَاهَلُوا وُجُودَ لبنان، بِسَبَبِ سُوءِ الإِدَارَةِ السِّيَاسِيَّةِ على كُلِّ المُستَوَيَات. لا بُدَّ مِنْ رَئيسٍ جديدٍ لِلجُمْهُورِيَّة، وَأنتُمُ المَسؤولون عن حُضُورِهِ أَو إحضَارِه، وستكونون في طَلِيعَةِ المَسؤولين عَنْ غِيابِهِ لأيِّ سببٍ كان. لا بُدَّ مِن رئيسٍ جديدٍ يُحافظُ على ثوابتِ الوَطَنِ والدَّولة، فَيَا أيُّها النُّوَّابُ الكِرام، ساهِمُوا – وهذه مسؤولِيَّتُكُم – في التغيير، وفي استعادَةِ رِئاسَةِ الجُمهُورِيَّة، لاحْتِرَامِها وَدَورِها بِالدَّاخِل، وتُجاهَ الخارج».

كشف استهداف «حزب الله» للمسيحيين

بكلام المفتي دريان حُسم النقاش حول طبيعة الصراع القائم في لبنان، فأهل السنّة ليسوا جزءاً من المعركة الدائرة الآن حول موقع وواقع رئاسة الجمهورية، بل الصراع الفعلي هو صراع شيعي – مسيحي، ومسيحي – مسيحي، بينما يقف أهل السنّة في موقف المدافع عن الوحدة الإسلامية والشراكة مع المسيحيين بكلّ أبعادها، وأصبح «حزب الله» في مواجهة الحقيقة.

يعتقد العقل السنّي في لبنان أنّ الدور المسيحي الفاعل يمنع الفتنة السنية الشيعية، بينما يريد «حزب الله» تهشيم المسيحيين للاستفراد بهم، ليأخذ التغيير الدستوري الذي يريد فيه أخذ نائبٍ لرئيس الجمهورية مع الصلاحيات وقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان، ويتخذ له في القضاء ركناً ركيناً.

عودة الحضور السنّي ومواصلة الجهد السعودي للإنقاذ

يريد «حزب الله» إبقاء أهل السنّة بلا مرجعية حتى يسهل عليه اختراقهم وتمزيق صفوفهم واقتناص حقوقهم في الدولة وخارجها، لكنّ ما يخشاه قد حصل، ووضع سماحة مفتي الجمهورية النقاط على الحروف التي ستكتب مرحلة جديدة ومختلفة، عاد فيها أهل السنّة إلى حضورهم، وعادت المملكة العربية السعودية إلى مواصلة دورها للحفاظ على وحدة البلد ولاستعادة الدولة وتحريرها من الاحتلال الإيراني، وأولى الخطوات ما بدأ فعلاً في توحيد الصف السنّي وإعادة الاعتبار للشراكة الإسلامية – المسيحية.