التخطي إلى المحتوى

لا صوت يعلو في مدينة طرابلس اللبنانية فوق صوت الموت والقهر، لا بل إنّ “رائحتهما” تعبق في كلّ الشمال اللبناني. وبينما غرق كثيرون من بين الذين ركبوا قارب الموت الأخير وقد غدرت بهم الأمواج بعد انطلاقهم من المدينة الأكثر عوزاً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، غرق ذووهم بدورهم في الدموع والسواد.

لا تكاد المدينة، التي تُعَدّ عاصمة شمال لبنان، تخرج من نكبة إلا وتقع في أخرى. وقصص قوارب الموت من بين النكبات، وكانت فصولها قد بدأت في عام 2020 مع ارتفاع حدّة الأزمة الاقتصادية في لبنان.

ومنذ أمس الخميس، الجميع منشغل بالقارب الذي قذفته أمواج العاصفة البحرية في اتجاه الساحل السوري، فعملية انتشال الجثث والبحث عن المفقودين ما زالت جارية. والقارب كان يقلّ على متنه عائلات في أغلبها سورية إلى جانب أخرى لبنانية وفلسطينية، هربت من سوء الأحوال المعيشية في البلد المأزوم.

في قلب المدينة، على مقربة من منزل عائلة المانع التي قضى أربعة من أفرادها، الأب مصطفى والأم وولدَين لهما، يقول رعد ماضي، صاحب البقالة المجاورة، لـ”العربي الجديد”، إنّ “هذه العائلة كغيرها من العائلات تعيش ظروفاً صعبة وسيّئة جداً، نتيجة عدم قدرة الوالد على تأمين قوت يومها. هو يعمل سائق أجرة، وبسبب غلاء الوقود لم تعد مهنته تكفيه وعائلته”.

يضيف ماضي أنّه “قبيل سفره بأيام، أخبرني مصطفى بأنّه سوف يغادر لبنان عبر البحر إلى إيطاليا طلباً للجوء بعد أن ضاقت به الحال، فهو لم يعد يصبر على البقاء في هذا البلد بسبب عدم قدرته على شراء ربطة خبز”، لافتاً إلى أنّ الرجل “باع سيارته لتأمين ثمن ركوبه وعائلته قارب الهجرة”.

(حسين بيضون)

وعند مدخل سوق الخضار في باب التبانة بطرابلس، ذلك الحيّ الذي يسكنه سامر الحصني الذي نجا من الغرق فيما أولاده الأربعة ما زالوا في عداد المفقودين في عرض البحر، يقول أحمد أبو العبد، لـ”العربي الجديد”، إنّ “مئات الشبّان في منطقة باب التبانة وبقيّة المناطق الشعبية الفقيرة ينوون الهروب عبر البحر إلى دول يأملون أن توفّر لهم حياة كريمة بعد أن ضاقت بهم سبل الحياة”، مؤكداً أنّه يسمع يومياً “أخباراً عن عائلات تتجهّز للهجرة وتبيع كلّ ما تملك للهروب من جحيم لبنان مع تراكم الأزمات، لا سيّما وسط الغلاء وغياب الدولة”.

ويضيف أبو العبد: “خذوا الحكومة والدولة والرئاسة واعطونا الكرامة ولقمة العيش اللتَين نستحقّهما من دون ذلّ”.

في منطقة ساحة النجمة بطرابلس، أُغلقت المحال في أكثر المناطق اكتظاظاً بالعائلات الفقيرة والمهمّشة. وهناك حيث تعيش عائلة الببو التي فقدت ثلاثة من أفرادها، تجمهر عدد من الشبّان الغاضبين وراحوا يردّدون شعارات مندّدة برئيس الحكومة نجيب ميقاتي (ابن مدينة طرابلس)، ووزير الداخلية والبلديات بسّام مولوي (ابن طرابلس كذلك)، ونوّاب المدينة الذين لم يتواصلوا مع ذوي الضحايا، بحسب المحتجّين.

وفي هذا الإطار، يقول معتصم هاجر، لـ”العربي الجديد”، إنّه سوف ينضمّ في يوم إلى ركب المهاجرين، لأنّ “الموت بات أفضل من الحياة في هذه الدولة التي لا تتعرّف إلينا إلا في الأحداث الأمنية”.

وكان قارب الموت الأخير، الذي يحمل على متنه 165 مهاجراً بحسب ما يشير أهالي بلدة المنية، قد انطلق من هذه المنطقة التي تزاحم جارتها طرابلس على المآسي والنكبات. فهي تحوّلت إلى نقطة انطلاق قوارب الهجرة غير الشرعية، علماً أنّها باتت محطة للاجئين الهاربين من سورية، إذ يقوم مخيّم لهؤلاء عند أحد أطرافها، فيما معظم أبنائها من المغتربين.

ومن المنية، يقول جهاد المبيض لـ”العربي الجديد” إنّه “انطلاقاً من واقع الحال، وبعدما استفاقت المنطقة على الخبر المؤلم، أغلقت المحال بمعظمها أبوابها احتجاجاً”، مشيراً إلى أنّ “ما جرى يُنبئ بانفجار اجتماعي كبير مردّه أنّ السلطة السياسية لا تكترث لهذه المنطقة، وأنّ الغضب يتزايد يوماً بعد يوم في ظلّ غياب أيّ حلّ يسرّع الإنقاذ ولو جزئياً”.

في سياق متصل، يشير مصدر أمني رفيع، لـ”العربي الجديد”، إلى أنّ “حالات الهروب عبر البحر لم تتوقّف حتى اللحظة، والقوى الأمنية توقف ثلاثة إلى أربع قوارب هجرة غير نظامية بشكل شبه يومي تتّجه إلى اليونان أو إيطاليا، وقد أُوقف كذلك عدد من الأشخاص الذين يسهّلون أو ينظّمون رحلات الهجرة تلك”.

ويضيف المصدر نفسه أنّه “يتمّ تعقّب الرحلات من خلال رصد عمليات بيع المفروشات والأدوات المنزلية والسيارات عبر وسائل التواصل الاجتماعي”، ويتابع أنّ “الرحلات سوف تستمرّ طالما أنّ الظرف الاقتصادي يزداد سوءاً، وثمّة توقّعات برحلات متزايدة في الشهرَين المقبلَين وسط تخوّف العائلات من انفلات الوضع أكثر”. ويلفت المصدر إلى أنّ “من ضمن المهاجرين (غير النظاميين) عناصر عسكريين وأمنيين ضاقت بهم سبل الحياة”.

وحول إطلاق سراح بعض المهرّبين، يقول المصدر الأمني إنّ “مواد القانون اللبناني تحتاج إلى تعديلات أساسية ومهمّة، إذ إنّ مواد القانون تشير إلى هجرة غير شرعية وليس إلى اتّجار بالبشر مثل ما يحدث الآن، وهذا الأمر في عهدة النوّاب والمشرّعين، حتى يُصار إلى معاقبة أيّ مسؤول عن مثل هذا الحوادث وعن التحريض على الهجرة بمقابل مادي”.

وهذا أمر يؤكّده النائب رامي فنج، الذي يشير إلى أنّه يُعدّ مع زملائه النوّاب مشروع قانون يصنّف مسهّل رحلة الهجرة غير النظامية أو المشرف عليها “متّجراً بالبشر”، وهو ما يحتاج إلى تعاون نيابي لمنع الانزلاق أكثر وتسجيل كوارث أخرى.